السودان وتسوية أوضاع جنوب السودان
برغم الروح (الرياضية) التي أبداها السودان تجاه انفصال الجنوب بتلك الصورة المتسارعة، التي تمخضت عنها اتفاقية السلام نيفاشا 2005م، ووقوف السودان إلى جانب ما اختاره أهل الجنوب، وحضور السيد الرئيس مراسم الاحتفال بإعلان الدولة، وبذله وعود الدعم والمساندة، ووضعه كافة إمكانيات السودان تحت تصرفهم حتى يشبوا عن الطوق، وكل ذلك بفهم أن استقرار الدولة المجاورة محفز لاستقرار الأوضاع داخل الوطن، وفرصة للاستفادة من الوقت والموارد للتنمية البشرية والاقتصادية، وخشيةً وإشفاقاً من انزلاق الدولة المركبة عرقياً إلى هاوية صراع لا نهاية له إلا بتدميرها، وأشقاء أهلها زيادة على شقائهم.
ولكن العقلية التي تسنمت قيادة الدولة (ملوثة) بكراهية غير مبررة تجاه السودان، وتحميله كل أوزار الحروب، وخطايا التاريخ، والإصرار على معاقبته بتصنيفه (عدواً)، ويلاحظ ذلك في كثير من الخطاب الإعلامي في الأجهزة الرسمية، ولذلك لم يتوانوا في استبقاء (قطاع الشمال) كواجهة للحركة الشعبية، لمواصلة تطلعها (الطامح) في حكم السودان الكبير، بمشروعهم (الحاقد) إن تيسر ذلك بالفرقتين (التاسعة والعاشرة) في جنوب النيل الأزرق، وجنوب كردفان، مع استخدام كامل (خبث ومكر) التيارات اليسارية لمساندة الأعمال العسكرية، ثم التمسوا المساندة لإتمام المهمة بحركات دارفور (العنصرية) التي غرس بذرتها الخبيثة (جون قرنق) للإحاطة وتطويق السودان من أطرافه، مستغلاً دعاية التهميش، وإثارة أنفاس العنصرية.
وفعلاً ارتفعت وتيرة الأعمال العسكرية في فترة ما بعد انفصال الجنوب، تحت غطاء إعلامي كثيف، وجهد جبار في توحيد فصائل المعارضة السياسية حتى يمكنها (إزالة النظام).
هذا بالضبط ما قامت به دولة جنوب السودان، وأول جند أولته الرعاية والاهتمام قبل التعليم والصحة وخدمات المواطنين، وإعادة إيواء المشردين، فضلاً على مؤامرة البترول و(وقف ضخه) والبحث عن بدائل في موانئ الجوار، فقط لحرمان السودان من عائد إيجار نفط الجنوب كعقوبة اقتصادية ملازمة للأعمال العسكرية العدائية، ولكن كل هذا الجهد راح (بندق في بحر)، لم يؤثر في السودان إلا بمقدار ما أثر فيهم بنزيف الموارد، والحسرة على ما أنفقوا.
ولأن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله، ساق الله سبحان وتعالى الأقدار إلى انحطاط سعر البترول، لدرجة ألا أحد مستعد ليغامر مع دولة الجنوب ليمدد أنبوب صادر لأي ميناء من دول الجوار، ثم استعار نار الصراع القبلي بين أكبر قبيلتين (الدينكا والنوير) ولمدة عامين كاملين، استنفدا فيهما طاقات بشرية ومالية جبارة، وقطعا خطوط الوصل، ونسفا إمكانية التعايش سوياً (مجرد التعايش) وليس الشراكة في الحكم والتعاون لبناء دولة.
الأمر الذي أضاع عليهم أثمن الفرص للاستفادة من السودان، وأفقدهم ثقة المجتمع الدولي، حيث صنفتهم المنظمات الدولية بمرتكبي جرائم ترقى لمستوى الإبادة الجماعية، وتراجع كل وعود الدعم المبذولة لحظة إعلان الدولة، واستبعاد أي احتمالات استثمار في الوقت الحالي، حتى بلغ الأمر درجة من الخطورة والإحراج للمجتمع الدولي، ليمارس الضغوط على طرفي الصراع حتى تم توقيع اتفاقية أديس أبابا في مايو الماضي، التي عاد بموجبها رياك مشار إلى جوبا نائباً للرئيس، ولكن حقائق الصراع لا تزال قائمة، ومسبباته باقية، فما لبثت الأوضاع أن انفجرت يوم الخميس الماضي، وعادت إلى مربع الصراع الدامي بين الأطراف، حيث امتلأت شوارع العاصمة جوبا بالجثث، وغادر د.رياك مشار القصر الرئاسي إلى مخبأ في مكان ما من الجنوب، استعداداً لقيادة معركة الدفاع عن النفس، وما اعتبره مؤامرة تصفية له وجنوده الذين سُمح لهم بالدخول لتأمينه الشخصي إبان عودته.
مجلس الأمن، عاد من جديد للغة التهديد إذا لم يتم وقف إطلاق النار، ولكن بعد فوات الأوان، وإزهاق مئات الأرواح، وكذلك طالب مجلس الأمن دول الجوار بالمساعدة في إعادة تسوية أوضاع الجنوب.. بالطبع الدولة الأقرب للقيام بهذه المهمة هي (السودان) للأسباب المعلومة، بينما يوغندا طرف أصيل في الصراع، وغير مؤهلة للقيام بهذا الدور.
التدخلات العسكرية المباشرة أثبتت فشلها، حيث تمت في العراق، وسوريا، وليبيا، واليمن، ولكن مخاطبة طرفي الصراع بما يزيل عنهم غشاوة التوتر يمكن أن يكون مفيداً.
الرئيس البشير، ولمعرفته التامة بكل الأطراف، وثقتهم فيه من خلال التزامه بكل الاتفاقيات الموقعة مع أطراف الصراع، منذ اتفاقية الخرطوم للسلام مع رياك مشار، ولام أكول، وإلى نيفاشا.
السودان لا يسعد بشقاء الجنوب بالتأكيد، وواقعه المؤلم يحتاج إلى تحرك سريع لوضع حد لهذه المأساة
اللواء يونس محمود محمد
تعليقات
إرسال تعليق