الحـــوار والحــريـــات .. مـدخــل المفــاصــلة الجــديــدة
عبد الله عبد الرحيم
لم تكن وحدة الإسلاميين هي الأمر الوحيد الذي شغل بال
الإسلاميين عقب انتقال الزعيم الروحي والمفكر الإسلامي وصاحب المرجعيات الفكرية
الدكتور حسن عبد الله الترابي، في الوقت الذي حذر فيه عدد غير يسير بينهم قيادات
في صفوف الحزب الكبير من مخاطر محدقة تواجه الحزب المكلوم في قائده تتعلق بالبقاء
أو الفناء. وكان مراقبون كثر قد أشاروا إلى أن شخصية الشيخ الترابي المفعمة
بالحيوية والتجديد الفكري قد أثرت على مجريات الحزب الذي أخذ حيويته من شخصية
القائد، فكان كظله تماماً يذهب حينما يسير الشيخ ويقعد حينما يأبى الشيخ التحرك،
ويرفض برفض الشيخ. هذا الانطباع جعل الكثيرين يعالجون الموقف بوضع الوحدة بين
الحزبين الكبيرين المؤتمرين «الشعبي والوطني» أمراً ضرورياً تقتضيه ظروف فقدان د.
الترابي الذي لم يكن بوصلة الشعبيين فقط، وإنما كانت إشعارات بوصلته تطول حتى
الأحزاب القريبة منه، ويأخذ بالطبع من خدماتها المؤتمر الوطني الحزب غير البعيد عن
إرث الترابي الإسلامي ونظرته لمجريات الأحداث من حيث بوصلة السياسة، هذه التداعيات
تنطلق لتكون مقدمة لأمر آخر شغل الإسلاميين ردحاً من الزمن، وهي تتعلق أيضاً
ببوصلة التفكير وسط هذه الجماعة المهمة في التاريخ السياسي الإسلامي. فأمر الحكم الذي جلست على كرسيه جماعة الاتجاه الإسلامي الذي
تفرع من بعد وصار أكثر من اتجاه لنفس الفهم والتفكير، فقط يختلف في الوسائل التي
فرقت بينهم، وأصبحت تهددها المخاطر المحدقة بإشاعة الحريات السياسية والالتزام
بإنفاذ مخرجات الحوار الوطني الذي أسس له حزب المؤتمر الوطني الحاكم وسانده بشدة
المؤتمر الشعبي، وقد رأى قائده الدكتور حسن الترابي أنه «الحوار» وحده الذي يستطيع
أن يسكن آلام الوطن ويضمد جراحاته.
وفي الوقت نفسه يرى متابعون أن إنفاذ مخرجات الحوار الوطني
الذي ناصره الترابي بكل قوته يمكن ان يوحد وحده عزيمة الإسلاميين بعد تفرق طال
قرابة الستة عشر عاماً، كما أن الجدية في إنفاذ التوصيات التي طالب بها المرحوم د.
حسن الترابي ستعمق من أواصر وروابط الوحدة المنكوبة بينهما. ويأتي هذا وقد دافع
خطيب مسجد جامعة الخرطوم أمس الأول البروفيسور عبد الرحيم علي الرئيس الأسبق لمجلس
شورى المؤتمر الوطني خلال خطبة الجمعة التي احتشد لها المئات من الإسلاميين
المهمومين بوحدة الصف الاسلامي من الفريقين «الوطني ــ الشعبي» وقد ارتفعت اصواتهم
بالتكبير والتهليل لهذا النداء الذي تداعت له هذه الجموع التي عبرت عن رأيها بكل
صراحة ووضوح، دافع خطيب المسجد عن الفكر الذي كرس الترابي له حياته، وظل يدعو
لإنفاذ ما توصل إليه الإسلاميون طيلة فترة بقائهم في سدة الحكم، وهو جمع الأمة على
كلمة سواء بإقامة سنن الدين والاستجابة لنداء الوحدة الذي يمليه ضمير الجمع
المسلم، معدداً إنجازات الشيخ الراحل وإسهاماته في تطوير الحركة الإسلامية من حيث
الاجتهاد في نصوص الدين وانتشارها وسط المجتمع، وتحويلها من صفوية ونخبوية إلى
حركة وسط عامة الناس بعيداً عن التطرف. ودعا بروفيسور عبد الرحيم علي إلى ضرورة
تناسي المرارات السابقة والعمل على وحدة الأمة، ووصف رحيل الترابي في هذا التوقيت
بالمحنة التي يجب أن يتحداها الجميع سوياً للوفاء بالعهد وتنفيذ مخرجات الحوار
الوطني. بيد أن ما قاله ممثل المؤتمر الشعبي في خطابه عقب صلاة الجمعة، رسم صورة
قاتمة لعلاقة الوطني والشعبي، إذ أكد أن العهد بينهم هو تنفيذ مخرجات الحوار
الوطني وإتاحة الحريات السياسية أو مفارقة جديدة وفراق.
حديث ممثل المؤتمر الشعبي د. محمد العالم تناوله الناس بجدية
تامة، إذ بعث عبره رسالة شديدة وقوية بحسب مفسرين، تشير إلى أن ثمة اتصالات للوفاق
جرت بين الطرفين «الشعبي ــ الوطني» لأجل وحدة الصف الاسلامي. ويرى الدكتور السر
محمد الأكاديمي والمحلل السياسي أن ما قاله الدكتور العالم لم يأتِ من فراغ، وإنما
يشي بأن هناك ترتيبات كثيرة قد قطعت شوطاً كبيراً، وأن وفاة الدكتور الترابي هي
التي عجلت بإظهارها للعلن، مشيراً إلى أن هذه التفاهمات بدأت همساً وربما كان في
قيادتها الدكتور الترابي نفسه، وأن الترتيبات كانت تقتضي عدم التعجيل بها لحين
وصول الحوار الوطني المتفق بشأنه بين الطرفين إلى نهاياته، ولأن يد المنون كانت
أسرع وقضت برحيل العقل المدبر لوحدة الإسلاميين الدكتور الترابي، بات من الأفضل
للطرفين الإسراع في لملمة جراحات الماضي ولمواجهة المصير المشترك سوياً، إذ لا
يوجد ما يقتضي إخفاءه بعد، وإلا فما كان ينبغي أن يقول بالذهاب لمفاصلة ثانية،
والمفاصلة الأولى لم تنته بعد أو كما هي مقدر لها. ويوافقه في هذا المذهب الدكتور
ابو بكر حسين آدم ذو الصلة بالشعبي، ويؤكد أن الحديث عن مفاصلة ثانية يؤكد
التفسيرات أعلاه، لجهة أن كل ما يعرفه الناس هو أن الحزبين في حالة انشقاق ومفاصلة
تامة لفترة خمسة عشر عاماً، ثانياً إن انضمام الشعبي للجهة المعارضة يجعله من
الضرورة أن يلعب دور الموفق بين تلك التيارات التي تؤمن إيماناً قاطعاً بأن
العلاقة بين الحزبين في حالة انقطاع تام، ولعل ما يظهر للناس من هدوء وتقارب لا
يتجاوز ما طرحه المؤتمر الوطني الحزب الحاكم للساحة السياسية والاجتماعية وغيرها
من حوار سمي بالوطني وحوار الداخل، وهذا الدور يجعل المؤتمر الشعبي من الضرورة
بمنأى عن أية خيارات للوحدة وإنفاذها في هذه الأوقات حتى تتجنب الفكرة التي أصبحت
برنامجاً «الحوار الوطني» الطريق للتسويق عالمياً وداخلياً. وبحسب د. أبو بكر فإن
الساحة اليوم أصبحت أقرب للوحدة، لأنه لا يوجد ما تخفيه الحركة الإسلامية بعد رحيل
الدكتور الترابي الرجل الذي تدور الآراء حوله كثيراً وقتها. وأن حديث الدكتور
العالم وربطه أمر المفاصلة بإنفاذ الحريات السياسية وانفاذ مخرجات الحوار الوطني
يأتي من باب احترام العهود، واحترام الأحزاب السياسية التي وقفت معهم كثيراً إبان
المفاصلة الشهيرة، وما ألقته من تداعيات على الوسط الشعبي، فيما يجد هذان البندان
دون سواهما من الاشتراطات الكثيرة بشأن جدوى الحوار الوطني الاتفاق الكامل من كل
الأوساط السياسية المشاركة في الحوار وغير المشاركة، وكان أمر إتاحة الحريات
السياسية والصحفية واحدة من البنود التي احتوتها أجندة تحالف باريس المعارض إبان
الاجتماع الأخير الذي حضره الصادق المهدي زعيم حزب الأمة، بالإضافة إلى أن أمر
الحوار الوطني ورغم ما وجده من مداخلات سياسية مختلفة معارضة ومتفقة معه، إلا أنه
كان من البنود الأكثر محكاً للمؤتمر الوطني، وبه جاءت الضمانات التي قطعها السيد
رئيس الجمهورية، كما أن الناطق الرسمي باسم آلية «7+7» في آخر مؤتمر صحفي أكد أن
الأحزاب المعارضة والممانعة للحوار الوطني بجانب الحركات المسلحة التي مازالت تحمل
السلاح ظلت تتخندق خلف ثلاثة جدر أساسية، وأن اثنين من هذه الجدر استطاعت الحكومة
والمجتمع المدني والسياسي تحطميهما، وبقي فقط جدار واحد هو جدار الضمانات لإنفاذ
مخرجات الحوار. واكد الناطق باسم الحكومة احمد بلال عثمان مقدرة الحكومة على تحطيم
هذا الجدار أيضاً، في التزامها المعلن بإنفاذ ما اتفق بشأنه من توصيات ومخرجات
وإتاحة الحريات العامة التي هي أصلاً مكفولة للجميع بحسب حديث بلال لأجهزة
الإعلام، مشيراً بذلك للنشاط السياسي الذي تمارسه بعض الأحزاب المعارضة داخل
السودان دون أن تتعرض لمضايقات من النظام الحاكم.
وبهذا تضع الحكومة نفسها أمام محك تنفيذ ما اتفق بشأنه مع
القوى السياسية حول إنفاذ تلك التوصيات التي قاربت على أن توضع على منضدة السيد
رئيس الجمهورية وإتاحة الحريات العامة، فيما اعتبرهما الشعبي قرباناً لرص الصفوف
مرة أخرى وتوحيدها مع فرقاء الأمس في الحزب الحاكم، فهل سنشهد وحدة للإسلاميين
قريباً بختام الحوار الوطني؟ أم أن الأيام تخبئ ما لم يكن في الحسبان، حيث
المفاصلة مجدداً بعد أن وصل حلمهم مراحل متقدمة في إعادة اللحمة مجدداً.
تعليقات
إرسال تعليق